الديمقراطية: تلازم السلطة والمعارض  (Democracy: Convergence of power and opposition)

بقلم منذر هنداوي

لا يمكن للسياسة أن تتطور بدون توصل المجتمع إلى قناعة بضرورة وجود معارضة تؤمن بالعملية الديمقراطية وبعَلمانية الدولة. نجاح أي حكم رهن بوجود معارضة قادرة على أن تدقق بكل تصرفات الحكومة وتنتقد وتبين كل الثغرات بقراراتها وتصرفاتها واحتمالات إساءة استخدام السلطة. وظيفة المعارضة أن تعمل كجهاز إنذار مبكّر ينبه إلى انحرافات الحكومة عن هدفها في خدمة المجتمع. إمكانية انحراف الحكومة ممكنة دوماً حتى في ارقى المجتمعات. هتلر تسلل إلى السلطة عبر انتخابات ديمقراطية وتحول إلى مستبد تسبب في دمار ألمانيا. هذه الإمكانية لا تزول، لكن يمكن تقييدها من خلال نظام سياسي متطور، يفرز حكومة، كما يفرز معارضة لها. حكومة ومعارضة شرعيتهما من صناديق الانتخابات. الحكومة تحكم، والمعارضة تعارض وتستجوب الحكومة. لا تنهض دولة بغير الطرفين: الحكومة والمعارضة. 

كما الأسرة طرفاها رجل وإمرأة مختلفان في التكوين، لكن متكاملان بالمحبة وإنجاب أولاد وتأهيلهم للمجتمع، فإن الديموقراطية لها طرفان متعارضان في الرأي، لكن متكاملان في هدف نهضة الدولة والمجتمع. بالمقابل كما العلاقة في الأسرة يمكن أن تتحول إلى علاقة إكراه وتسلط، فتخرب الأسرة و تخرب رسالتها، فإن نظام الحكم الديمقراطي يمكن أن يتحول إلى علاقة إكراه واستبداد عندما يتم إقصاء الرأي المعارض فتخرب الدولة و تتوه عن رسالتها. لا يحمي الدولة و المجتمع من الوقوع في فخ الاستبداد غير تلازم قطبي الدولة من حكومة ومعارضة، وانفتاحهما على بعضهما.

قبل أن تكون الديمقراطية نظام حكم سياسي، أو نظاما “مستورداً” من الغرب، هي نظام إنساني أساسه السعي للتفاهم مع الآخر بلا تسلط ولاعنف. إنها نظام حياة يتطلب مشاركة الآخر والتفاهم  معه عوضا عن كسره. إنها أسلوب تفكير ونمط تعلم قائم على التحاور وليس على الإكراه. إنها اُسلوب فكر يتجاوز حدود التأمل الفردي. فمهما كان تأمل الفرد مفيدا، وضروريا، فإنه لا يغني عن الاستماع لرأي الطرف الآخر وانتقاداته. مهما تصورنا أن الآخر قاصر الرؤية، لا بد أن يكون لديه ما يضيفه بانتقاداته لنا. الآخر، بحكم أنه آخر، مهيأ أكثر منا للنظر من زوايا أخرى مختلفة لا نعرفها بمجرد التأمل. لذلك فمن أجل التفاهم بين الناس لا بد من تحفيز الآخر كي يبدي وجهة نظره عوضاًعن إقصائه. و هذا يفتح باب الحوار على مصراعيه لكل مكونات المجتمع. 

الاستبداد في الرأي، وعدم الاستماع إلى رأي الآخر و إلى مواجعه والاستهتار به مقتل الدولة والمجتمع وكل علاقة اجتماعية. مهما كان المستبد عبقرياً فهو بحاجة إلى من يستمع إليه ويتعلم منه. الدولة التي لا تصغي لمتطلبات مواطنيها وتفرض ما تريد بقوة الإكراه وليس بقوة الإقناع هي دولة استعباد. لكن بعد قرون من انعتاق الشعوب لا يمكن العودة إلى زمن العبيد من جديد. الدولة التي تجعل الناس بمثابة عبيد مهددة بكل أنواع الانفجارات والخراب مهما أبدت من قدرة في السيطرة والهيمنة. بالإكراه يمكن أن تسيطر، لكن لا يمكن أن تخمد الجذوة المتطلعة إلى الحرية مهما تكاثف الرماد فوقها. عندما تهب رياح التغيير يمكن لهذه الجذوة أن تشتعل وتحرق كل شيء. الدولة الأكفأ هي التي تتفهم هذه الجذوة في النفس البشرية نحو الحرية. وهي التي تصغي على نحو أفضل لتطلعات الناس وتتفاهم معهم حول الممكن تحقيقه. الإصغاء والتفهم والتفاهم أساس التقدم في كل مجال. حتى الشركة المنتجة إذا لم تصغ لاحتجاجات الزبائن ولم تنظر في تغيرات أذواق ومتطلبات المستهلكين مصيرها الانحسار والإفلاس.

 فقط في الإصغاء المتبادل للرأي بين الحكومة المنتخبة وبين المعارضة يمكن التوصل إلى “الأمثل”. والأمثل ليس الأقصى، وليس كلُّ ما أريده أنا، ولا كل ما تريده أنت، بل هو ما نتفاهم عليه في الحوار، وهو ما يمكن الوصول إليه بعد تقديم تنازلات لبعضنا. تعلُّم تقديم تنازلات مشتركة ليس سهلاً، لكنه أساس كل ديموقراطية سياسية ناجحة. تقديم التنازلات للوصول نحو أحسن الممكن ليس عيباً. العيب في تعنت حكومة متعالية لا ترى في المعارضة غير جماعة خارجة عن الطاعة فلا تفكر بأي تنازل لها. العيب في معارضة لا ترى غير الثورة وسيلة لانتزاع المطالَب بغض النظر عن حساب النتائج التي قد يكون فيها هلاك الجميع بمن فيهم من يفترض أن الثورة من أجلهم. 

كما أن الديمقراطية ليست منحة تمنحها الحكومة للناس، فإنها أيضا ليست خلاصة ثورة نطلقها ولا نعرف أين تأخذنا. الحرية ليست قراراً سياسياً تمنحه الحكومة للناس فيصبحون أحرارا، و لا شعارا تنادي به المعارضة ليل نهار دون أن تعرف جيداً الطرق المؤدية لها. الحرية مسيرة وعي مستمرة لا تتوقف. الحرية فهم متجدد للواقع المتغير باستمرار. الحرية فهم الممكن في وقت معين، فحدود الممكن متغيرة. ما هو غير ممكن الآن يصبح ممكنا بعد حين. الحرية ليست فعل المستحيل. الحرية ليست مناطحة حيطان الصد دون أخذ و رد. من لا يملك الوعي ليس حراً. من لا يحاول معرفة حدود “الممكن” ليس حراً. من لا يتوقف عن التذمر من الاستبداد، ولا يعرف غير توجيه اللوم ورفع شعارات الديمقراطية والحرية دون دراية كيف تتحقق ليس حراً. إنه أسير دوائره التي أغلق نفسه بها فلم يعد قادرًا على تقليب تصوراته و إعادة النظر بالفرص المتاحة للتغيير الأمثل في الظرف الأسوأ. كل شخص يستطيع لعن الظلام والظالمين، وأن يكتب شعراً يصور الظلم والاستبداد بأبشع الصور. نزار قباني كتب أجمل الأشعار الملهمة ضد الاستبداد والتخلف. لكن هذا ليس معارضة ترسم بديلا عمليا، ولا سياسة تعلمنا فن الحصول على الممكن، ولا نهضة بالوعي تعلمنا حساب الاحتمالات المُحتملة لما سنقدم عليه. الوعي قائم في القدرة على الحساب والتحسب والتفهم. الوعي قائم في وعي الفلاح الذي علمته التجربة أن حساب الحقل غير حساب البيدر. الحرية في وعي ضرورة أن تحسب وتتحسب، وفي “اعقل وتوكل”.

من يبحث عن الحرية والديمقراطية عليه أن يسهم بنشر الوعي بأهمية الحوار وأهمية التفاهم ضمن أي دائرة يعيش فيها: ضمن أسرته ومدرسته وعمله وعلى النت التي بات الناس يتواصلون عليها. من يقود ثورة من أجل التحرر عليه أن يتقن أكثر من الفلاح بكثير الفرق بين حسابات الحقل و حسابات البيدر، وإلا فإنه  قد ينتهي بمزيد من القيود التي هب لكسرها. لا حرية ولا ديمقراطية ولا مجتمع ولا دولة ولا سياسة ولا فكر يؤثر بالناس بلا تقدم الوعي و تعلم حساب النتائج و إعمال العقل والتعقل. 

Print Friendly, PDF & Email

Source Article from http://www.redressonline.com/2018/06/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%85%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D9%84%D8%A7%D8%B2%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%B7%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%B1%D8%B6-democrac/

You can leave a response, or trackback from your own site.

Leave a Reply

Powered by WordPress | Designed by: Premium WordPress Themes | Thanks to Themes Gallery, Bromoney and Wordpress Themes