صخرة رأس الناقورة المبتدأ…‏‎ ‎فما الخبرُ في التفاوض‎ ‎حول الحدود البحريّة؟

العميد د. أمين محمد حطيط

من الطبيعي أن تبدأ مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين التي يحتلها العدو الإسرائيلي. من الطبيعي أن تبدأ بالتأكيد على النقطة الأساس على صخرة رأس الناقورة التي تشكل نقطة التقاء الحدود البرية والحدود البحرية الجنوبية للبنان. لأنها نقطة الحدود البرية التي تصل اليها مياه البحر. نقول هذا لأنه وفقاً للقواعد المعتمدة في قانون البحار للعام 1982 تعتمد كنقطة أساس لرسم الحدود البحرية اول نقطة حدودية برية تصل اليها مياه البحر، ومن نقطة الأساس هذه ينطلق خط الوسط او الخط المنصف LIGNE MEDIANE الذي يفصل بين المياه الإقليمية والمنطقتين الاقتصاديتين الخالصتين لكيانين سياسيين متجاورين.

وفي الحال اللبنانية ووفقاً لاتفاقية بوليه – نيوكومب لعام 1923 والمُصادق عليها من قبل عصبة الأمم والتي ترسم بشكل نهائي الحدود الدولية المعترف بها بين لبنان وفلسطين، فإنّ نقطة الأساس هذه هي صخرة رأس الناقورة الظاهرة بشكل نتوء صخري نافر يدخل في البحر مميّزاً عن كلّ ما عداه ونصت عليها الاتفاقية الفرنسية – البريطانية بنص صريح حرفتيه “تنطلق الحدود من البحر الأبيض المتوسط من النقطة المسمّاة رأس الناقورة وتتبع خط القنن من هذا النتوء / الحافز الى المعلم / العلامة رقم 1 “

“la frontier part de la mer mediterranee de point appele RAS-EL-NAKURA et suit la ligne de crete de cet eperon jusqu,au signal 1…..”

وكان من الطبيعي أن لا يخضع تحديد نقطة الأساس هذه لأيّ نقاش او جدل طالما ان اتفاقية بوليه – نيوكومب هي في الأصل بمنأى عن أيّ جدل ونقاش وهي ثابتة ونهائية قبل اغتصاب فلسطين وقبل قيام الكيان الصهيوني المحتلّ، كما ان اتفاقية الهدنة للعام 1949 بين لبنان والعدو الإسرائيلي أكدت على هذه الاتفاقية ثم جاء القرار 425 الصادر عن مجلس الأمن للعام 1978 يؤكد على الحدود الدولية للبنان تلك كما وعلى اتفاقية الهدنة التي تستند عليها لرسم خط الهدنة تطابقاً معها. (للأسف ان تفاهم الإطار لم يذكر كلّ ذلك ولكن حسناً فعل رئيس الجمهورية بتوجيهاته لرئيس الوفد الذي ذكرها في كلمته الافتتاحية).

بيد انّ المنطق والحق والقانون لا يكون سهل التناول والتطبيق عندما يكون الطرف المعني بتطبيقه عدواً كالعدو الإسرائيلي القائم أساساً خلافاً للحق والمشروعية، لهذا يكون من المفيد ان يستند المرء في مواجهة العدو الإسرائيلي الى القوة المادية الميدانية أيضاً التي تحصّن الحق المنبثق من قانون او منطق. وهكذا فإنّ لبنان عندما احتلت ارضه من قبل “إسرائيل” في العام 1982 نظم مقاومة شعبية تمكنت بعد 18 سنة من الكفاح والقتال من طرد “إسرائيل” من معظم الأرض اللبنانية في العام 2000.

وقد قيّض لي أن أكون رئيساً للجنة عسكرية لبنانية أنيطت بها مهمة التحقق من خلو أرض لبنان من جند العدو، وطردهم منها خارج الحدود الدولية المعترف بها كما ينص القرار 425 الذي زعمت “إسرائيل” أنها تنسحب تنفيذاً له وطلبت من الأمم المتحدة ان تواكب هذا الانسحاب لتتأكد من اكتماله.

وبعد طويل تحضير ونقاش وجدل حول الخرائط والخطوط توصلنا مع الأمم المتحدة الممثلة بقوات اليونيفيل الى معايير وقواعد للتحقق من هذا الانسحاب. وذهبنا للبدء من التحقق الى النقطة المبتدأ أيّ رأس الناقورة. كان ذلك يوم الأربعاء الواقع فيه 8/6/2000 وبوصولنا تحققت على الأرض مباشرة من 3 أمور أساسية وفقاً لاتفاقية بوليه نيوكمب والسلوك المعادي: الأول ان صخرة الناقورة المقتحمة للمياه لا زالت موجودة ولكن يصعب الوقوف عليها لأنها أسفل جرف صخري، ثانيها انّ النقطة B1 التي تشكل أول علامة ذات إحداثيات نملكها لنقاطنا الحدودية ازيلت من مكانها ونقلت مسافة 20 م باتجاه الشمال داخل لبنان، ثالثها انّ النقطة Bp1 وهي العلامة الحدودية الرئيسية الاولى التي ذكرها نص توصيف الحدود المُشار اليه أعلاه هي داخل حقل ألغام يصعب الوصول اليها.

سجلت يومها ملاحظاتي تلك وطلبت من رئيس الوفد الأممي الجنرال سيرينن معالجتها ليصوّب الوضع عبر وفده الأممي العامل على الجانب الآخر (رفضنا نحن قيام لجنة ثلاثية مشتركة تجمعنا مع الأمم المتحدة و”إسرائيل” وفرضنا قيام لجنة لبنانية – أممية ولجنة أممية – “إسرائيلية” وتكون الأمم المتحدة هي مَن يتولى الاتصال).

وعليه نكون قد عاينا 3 نقاط حدودية رئيسية هي نقطة صخرة راس الناقورة التي لم يعبث بها، ونقطةB1 التي عبثت بها “إسرائيل” وحركتها 20 م شمالاً، ونقطة Bp1 التي لم نتمكن من الوقوف عليها مباشرة بسبب حقل الألغام.

سجلت ملاحظاتنا وتلقينا وعداً من الجنرال سرينن بالمعالجة، التي تمّت بالفعل بعد طويل مماطلة إسرائيلية زادت مدّتها عن الأسبوع تقريباً تمكنّا خلالها من إعادة النقطةB1 إلى مكانها الصحيح حسب الإحداثيات التي لدينا، كما تحققنا من النقطة Bp1 في مكانها الصحيح من خلال عملية التحقق في جولتها الثانية، وتأكدنا في نهاية المطاف انّ الخط المتشكل من النقاط الثلاث تلك مطابق لخط القنن كما تنص عليه اتفاقية بوليه – نيوكومب. وعندما أنهينا مهمة التحقق الشاملة بعد 3 أشهر من بدئها كان الوضع الحدوديّ في الناقورة سليماً ميدانياً وصحيحاً على الخرائط التي كانت الأمم المتحدة تحاول وبدفع من “إسرائيل” أن تعبث بها لتقتطع 13 منطقة من لبنان ومنها رأس الناقورة لتعطيه لـ “إسرائيل”، لكنها تراجعت بعد أن اصطدمت محاولتها بصلابة الموقف اللبناني في العام 2000.

بيد أنّ هذا الواقع انقلب بعد ذلك حيث اكتشفتُ التغيير في العام 2009 عندما قمتُ مع العماد إميل لحود في 14/5/2009 بزيارة تفقدية استطلاعية للحدود (زيارة خاصة وشخصية بعد ان كنت قد استقلت من الجيش وكان الرئيس لحود قد أنهى ولايته في رئاسة الجمهورية) حيث تبيّن لي انّ “إسرائيل” عبثت بالحدود في الناقورة كما في مناطق أخرى من المناطق الـ 13 التي كانت تطمع بها في العام 2000، وأنها خلال عدوانها على لبنان في العام 2006، عادت ودخلت إلى المنطقة وعبثت بمعالمها الحدودية، وأجرت تحويراً للحدود طال الصخرة وادّعت انّ نتوءاً يبعد عن صخرة الأصل مسافة 10 أمتار شمالاً هو نقطة بدء الحدود البرية، كما انها نقلت المعلم B1 حوالي 25 م شمالاً اما النقطة Bp1 فبدا لي ظاهراً انها لا زالت يومها في موقعها لم تمسّ. (اسمت المناطق المعتدى عليها بأنها مناطق متنازع عليه ومتحفظ عليها وهو وصف تزويري لانّ التحفظ واقع على 3 مناطق فقط هي رميش والعديسة والمطلة فضلاً عن مزارع شبعا).

والآن ومع ظهور النفط والإلحاح على ترسيم الحدود البحرية وتكليف وفد عسكري – تقني لبناني للتفاوض حولها تكاد تبدو مهمة الوفد اللبناني سهلة وشاقة في الآن ذاته. وهي مهمة يجب ان تبدأ حتماً وبدون نقاش من رأس الناقورة بإعادة الحال فيه الى ما كان عليه في حزيران /يونيو من العام 2000 مستنداً في ذلك الى اتفاقية بوليه – نيوكومب ونقاطها الـ 38 المشار اليها برمز Bp مضافاً إليها النقاط الـ 96 الوسيطة المشار اليها برمز B ومعها معيار حاسم في منطقة الناقورة لا يتبدّل ولا يتحور وهو خط القنن، فالحدود تتبعه تطابقاً وتستطيع صور الأقمار الاصطناعية ان تحدّد الخط بدقة متناهية ولا يبقى هنا كـ مجال لغلط او احتيال. ولهذه الأسباب كانت ملاحظاتنا على تفاهم الإطار الممهّد للمفاوضات واصرارنا على أنّ مرجعية التفاوض يجب ان تكون اتفاقية بوليه نيوكومب واتفاقية الهدنة والقرار 425 وليس تفاهم نيسان 1996 الذي نخشى أن يطرح له تأويل هنا لا يكون في مصلحة لبنان.

ان اختبار نيات العدو وجدية الوسيط الأميركي في مفاوضات الناقورة لترسيم الحدود البحرية يبدأ وينتهي في الناقورة اختبار لن يتعدّى ميدانه الأمتار الـ 25 هي المسافة بين المكان الخطأ والمكان الصواب للنقطة B1 معطوفاً على الأمتار العشرة للصخرة القائمة على رأس الناقورة والفاصلة بين المكان الحقيقي والمكان المزعوم لها؛ فإن نجح المختبرون فتحت الطريق امام الترسيم الآمن وإن فشلوا فلا يكون فائدة من متابعة التفاوض التقني غير المباشر لرسم الحدود البحرية…

أستاذ جامعي

فيديوات متعلقة

مقالات متعلقة

You can skip to the end and leave a response. Pinging is currently not allowed.

Leave a Reply

Powered by WordPress | Designed by: Premium WordPress Themes | Thanks to Themes Gallery, Bromoney and Wordpress Themes