«ثورة» كازاخستان: خطر تمّ احتواؤه حتى الآن… ولكن؟!

2022 الثلاثاء 11كانون ثاني

 العميد د. أمين محمد حطيط*

عندما اشتدّت حدة التوتر بين روسيا وأوكرانيا حتى بلغت حدّ التكهّن بقرب إطلاق روسيا عملاً عسكرياً واسعاً داخل تلك الدولة التي ترشح نفسها للانضمام الى حلف الناتو لتضع الحلف ملاصقاً لروسيا عند حدودها الغربية، عندها صرّح بايدن أنّ أميركا لن تكون على استعداد للتدخل العسكري ضدّ روسيا في أوكرانيا، لكنها ستتخذ من التدابير بحقها ما يجعلها تتألم او تندم اذا نفذت تهديدها بالاجتياح؛ موقف جاء بعد أشهر من قرار بايدن الانسحاب السريع من أفغانستان وإعلان أميركا عن تفاهم مع العراق يضع حداً لانتشار قواتها القتالية فيه ويحوّله الى وجود من طبيعة عسكرية استشارية ولوجستية من أجل تدريب ودعم القوات المسلحة العراقية من أمن وجيش. ترافق ذلك مع رفع درجة الاهتمام الأميركي بمسألة الصين والاتجاه الى «احتواء» خطرها المتعاظم ضدّ أميركا، اهتمام أطلق عليه وصف «الانزياح الأميركي نحو الشرق الأقصى».

هذه المواقف وغيرها مما هو معلن أميركياً بشأن اليمن والسعودية وغيرهما حملت البعض على القول بأنّ أميركا بصدد اعتماد استراتيجية جديدة تنسحب بموجبها من الشرق الأوسط لتتفرّغ للشرق الأقصى بعد فشلها في الحرب الكونية التي استهدفت بها سورية وكامل محور المقاومة، قول لم يتقبّله فريق آخر من الباحثين ونحن منهم، حيث كان من الصعوبة بمكان القبول الآن بفكرة تخلي أميركا عن الشرق الأوسط ذي الأهمية الاستراتيجية التي تفرض على من يتطلع الى الإمساك بقرار العالم أو التأثير فيه أن يكون ممسكاً بقرار هذه المنطقة أو له موقع مؤثر فيها، وأنّ أميركا لا تزال ورغم النكسات والفشل في أكثر من جبهة وميدان، لا تزال تطرح نفسها قائدة للعالم، وأنها لا تزال ترفض فكرة النظام العالمي الجديد القائم واقعياً على تعدّد الأقطاب والتنوّع في المجموعات الاستراتيجية التي تشكلت وتتشكل في سياقه.

ربطاً بما تقدّم من وقائع ومفاهيم وتناقضات في السلوكيات الأميركية حيال المنطقة التي تسمّيها أميركا وفقاً لتقسيمات انتشار جيوشها وأساطيلها في العالم تسمّيها «المنطقة الوسطى» كان لا بدّ من أن تكون أميركا تخفي شيئاً كبيراً يمكنها من البقاء الفاعل في آسيا الوسطى وغربي آسيا، وجوداً تواجه به أعداءها الأساسيين الأخطر على سياستها في العالم والمتمثلين بشكل أساسي بثلاثي الصين وروسيا وإيران.

ولهذا فإنه عندما انفجرت أعمال الاحتجاج في شوارع مدن كازاخستان الرئيسية بهذا الشكل، احتجاجات انقلبت بسرعة هائلة الى أعمال عنف دمويّة أوْدت خلال ٤٨ ساعة بحياة ١٦٤ مواطناً كازاخياً، كان لا بدّ من البحث عن يد خفية أعدّت وحرّكت هذه الأعمال بمثل هذا التأثير والشدة، وكان أيضاً من المُلحّ أن تدرس الظاهرة من قبل المعنيين من الدول المهدّدة بهذه الأعمال، أو التي يمكن أن تتأثر بتداعياتها.

فكازاخستان دولة ذات أهمية استراتيجية قصوى في آسيا الوسطى، أهمية تستمدّ من موقعها الجغرافي وثرواتها الطبيعية وتأثيرها الفاعل على المستهدفين الأساسيين الثلاثة بالسياسة الأميركية باعتبارها منطقة الوسط بينهم (الصين وروسيا وإيران). فهي تتشارك مع روسيا بحدود هي الأطول بين دولتين في العالم (٧٠٠٠ كلم)، وتتصل بالصين من الشرق بما يجعلها الممرّ الإجباري لطريق الحرير الجديد المعبّر عنه بمشروع «الحزام والطريق» الواعد، وهي تقع شمالي إيران التي يعنيها أكثر من أمر من أمورها المشتركة مع كازاخستان ديمغرافياً وانتماء وعقيدة وأمناً.

وكان من المنطقيّ أن يكون البحث عن اليد الأميركية في أحداث كازاخستان التي سرعان ما أسميت في الإعلام الغربي «الثورة»، وربطت بالثورات الملوّنة التي اعتمدتها أميركا لقلب أنظمة الحكم في أكثر من دولة في العالم ووضع اليد عليها والإمساك بقرارها، وبالفعل تبيّن بعد بعض من بحث وتمحيص انّ أحداث كازاخستان كان بدأ الإعداد لها منذ العام ٢٠١٩ بقيادة أميركية ومشاركة بريطانية وتمويل سعودي ودور تركي.

ومهمّ أن نتوقف عند العام ٢٠١٩ أيّ مباشرة بعد أن تأكد لهؤلاء فشل الحرب الكونية على سورية ومحور المقاومة ونجاح روسيا في التقدّم لإشغال موقعها في الصف الأول دولياً وتأكد نجاح الصين في التعامل مع التدابير الأميركية ضدّها واحتواءها كما ينبغي.

ولهذا أدركت روسيا حجم الخطر المتشكّل عند حدودها الجنوبية، والذي شرعت أبوابه عليها من كازاخستان وهي ما برحت تعالج المسألة الأوكرانية وتداعياتها، لذلك كان عليها وبدون تردّد او إبطاء أن تسارع إلى عمل دفاعيّ جوهري وفقاً لما تتيحه لها «معاهدة الأمن الجماعيّ» التي ينتظم فيها الى جانبها كلّ من كازاخستان، وتركمانستان، وقيرغيزستان، وطاجيكستان، وأوزبكستان، والتي تتيح للأعضاء في هذه المنظومة تبادل المساعدة العسكريّة للحفاظ على الأمن والسيادة على أراضيها، فوجهت قوة عسكرية قتاليّة يناهز عديدها الـ ٢٠ ألف جندي وضابط انتشروا في مدن كازاخستان الرئيسيّة لحماية البنى والمقار الرسمية والعامة ولقطع الطريق على الفوضى التي خطط لها لإسقاط النظام ونقل البلاد إلى الضفة المعاكسة وإقامة حكومة تديرها أميركا وبريطانيا.

لقد أنقذت روسيا بتدخلها العسكري السريع والمشروع في كازاخستان، أنقذت نفسها وحلفاءها ومنطقة آسيا الوسطى من مشروع فوضى وعدم استقرار وأخطار لا تُحصى وأجهضت خطة غربية خبيثة كان من المقدّر لها لو نجحت ان تعوّض خسائر الغرب في العقد الأخير في ميادين وساحات الشرق الوسط وآسيا الوسطى، وأن تحجب التقدّم الروسي على الصعيد الدولي، وتشغل روسيا عن الخطر الأوكراني، وان تقطع الطريق على الصين في خطة «الحزام والطريق»، وان تجبر إيران على الاهتمام شمالاً وتخصيص جهد لا بأس به لاتقاء الخطر من الجمهوريات الإسلامية التي تتغلغل فيها اليد الصهيوأميركية وذلك على حساب ملفات أساسية استراتيجية تهتمّ بها عادة.

لقد قطعت الطريق حتى على مشروع كارثي في أوراسيا وآسيا الوسطى وصولاً الى غربي آسيا، ومع ذلك فإنّ الموضوع لم ينته بعد والخطر لم يستبعد كلياً طالما انّ هناك جمراً وناراً يمكن ان تنبعث في الشوارع الكازاخية رغم انّ الدولة ومع المساعدة الروسية أمسكت بزمام الأمور وسيطرت على الوضع، لكن التجارب تعلّمنا انّ أميركا من طباعها الاستمرار في المحاولة وطالما انها تلعب بدماء الغير وأمنه وماله دون ان تمسّ هي بجندها ومالها فإنها لا تتوقف عن العدوان والعبث بأمور الغير، من هنا تبدو أهمية بلورة موقف دولي إقليمي متماسك يكون الى جانب كازاخستان ليدافع عنها تكون نواته منظمة معاهدة الأمن الجماعي ويستفيد من قدرات دولية أخرى خاصة الصين وإيران.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي.

فيديوات متعلقة

مقالات متعلقة

Source

You can skip to the end and leave a response. Pinging is currently not allowed.

Leave a Reply

Powered by WordPress | Designed by: Premium WordPress Themes | Thanks to Themes Gallery, Bromoney and Wordpress Themes